الصرع بين الحقيقة والوهم
إذا كان التداوي والمعالجة من الأمراض والعقد النفسدية (النفسية والجسدية) التي تصيب الإنسان في هذا العصر قد بلغ الذروة في تقدمه وتطوره وابتكاراته، فلا بد لنا من القول بأن المعالجة النفسدية ليست وليدة هذا العصر الذي تطور فيه الطب، وتنوعت الاختصاصات وكثرت فيه الاكتشافات و الاختراعات. إنما علاج الأمراض النفسدية وفق المبادئ النفسية قد استخدم منذ القدم بواسطة السحر والعزائم والرقي.
ويرى بعض علماء النفس أن جمجمة الإنسان كانت تستخدم قديما لشفاء بعض الأمراض النفسية المستعصية، المتأتية عن الخوف والقلق و الاضطرابات العصبية، ومن هنا بمقدورنا أن نقول أن صناعة الطب النفساني قديمة قدم هذا الكون، مرت عليها أجيال وتعاقبت دهور، ولا يزال الخلاف بين القدماء والمحدثين في هذه المعالجة محصورا في التحليل والتعليل، ومحاولة ربط الأسباب بالمسببات، فالقدماء من أصحاب السحر والعزائم والرقي الذين اعتقدوا أن هذه الأمور هي التي تبلسم المرض، وتبرئ المصاب، قد خاضوا معركة مداواة المرض بضراوة وادخلوا إلى عقولهم بأن الشفاء والخلاص لن يتم إلا عن طريق ما يستخدمونه من عزائم ورقي وبخور. أما المحدثون فيرون أن السبب المباشر في الشفاء هو إيمان المصاب نفسه بأنه سوف يتخلص من مرضه عن طريق التحليل والتعليل النفسي.
ويلاحظ أن الخلاف بين الطرفين ينطلق من عملتي التنظيم والترتيب وبسط القواعد وشرح المرتكزات وإعادتها إلى جذورها وأسسها ومبادئها النفسية الشائعة في هذه الأيام. ومما لا شك فيه أن الطب سواء أكان جسديا أو نفسيا فهو علم يعتمد على قواعد وأصول ثابتة، هي في الحقيقة وليدة السحر والشعوذة والتنجيم وغيرها من الطرق التي مارسها القدماء في مداواة المصابين والمرض. ولعل أهم هذه الأمور وأبعدها تأثيرا في معالجة الإصابات النفسانية السحر.
مفهوم الصرع :
الصرع : هو حالة ناتجة عن تداخل عدة أمراض يشترك فيها الجانب العقلي، والعضلي والسحري (الجني)، وهو ناتج عن تفريغ سريع لشحنات كهربيّة للخلايا العصبية تحدث انقباضا عضليا وتشنجا ليفيا تكون نتيجة فقدان الوعي والسقوط الحرّ على إثر صرخة عالية وزوغان بصر.
و الصرع مرض ثابت بالنقل والعقل على السواء وهو واقع ومشاهد ومن أنكره فهو جاحد ومعاند لدين الله.
قال تعالى : ” الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطُه الشيطان من المسّ ” (1).
يقول الإمام القرطبي في معنى هذه الآية : ” إنها دليل على فساد من أنكر الصرع، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسْلُكُ في الإنسان ولا يكون منه مسّ (2).
فالصرع إذا هو اختلال يصيب الإنسان في عقله- بحيث لا يعي المصاب ما يقول، فلا يستطيع أن يربط ما قاله وما سيقوله، كما يصاب هذا الاختلال العقلي اختلال في حركات المصروع فيتخبط في حركاته وتصرفاته فلا يستطيع أن يتحكم في نفسه، وقد يفقد القدرة على تقدير الخطوات المتزنة لقدميه أو حساب المسافة الصحيحة .
و المصاب عندما يتعرض لهذه الحالة فإنه يتخشّب ويهوى على وجهه في أي مكان يكون موجودا فيه (بئر- بركة ماء- نار- شاطئ البحر- أسلاك شائكة الخ…)
ثم تنتاب المصروع رجفة ينقطع معها التنفس فيخرج لسانه ويندلق الزّبد من فيه، وقد يضغط بأسنانه على لسانه أو على شفته السفلى (وهنا ينصح أهل الدراية بوضع قطعة قماش نظيفة داخل الفم وذلك بغرض التخفيف من أثر العض).
وإذا طالت نوبة الصرع تكسى الجسد زرقة مخيفة وتنكمش الأطراف ويشخص البصر إلى السماء، ويدخل المصروع في طور الغرغرة حتى أنه قد يتبوّل على نفسه.
بعد ذلك ينتفض الجسم ويبدأ في الارتخاء تدريجيا ليعود إليه التنفس واختفاء الزرقة، غير أن المصروع يظل فاقدا للوعي لفترة معينة ولا تستغرق مدة الإغماء العام و الانتباه الجزئي إلا بضع دقائق قليلة ليعود إليه الشعور والوعي الجزئي بحيث يقوم وكأنه فاقد للذاكرة منهوك القوى سارح الذهن لا يدري ماذا حدث له ولا يتعرف على أحد ممن حوله وقد يطرح أسئلة جدّ غريبة؟ هذا وتختلف حالة الإصابة من شخص لآخر تبعا للسن، والطبع، والوراثة، والحالة الصحية العامة، وطبيعة النوبة نفسها، والمهنة.
- البقرة / 275.
- تفسير القرطبي – 3 / 355
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن به لَمَما، وأنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه صدره ودعا له فثعًّ ثعّة فخرج من فِيهِ مثل الجرو الأسود فسعى (1) وما يمكن أن نستنتجه من خلال الآية الكريمة السالفة الذكر والحديث النبوي الذي ورد عن ابن عباس ما يلي :
- إن الشيطان قد يصرع الإنسان حتى يصير مجنونا.
- إن هذا الصرع أو المرض يمكن أن يعالج بالضرب.
- إن خروج الجن من جسد الإنسان لا بد وأن يسبقه دخول.
هذا وأن هناك كثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تثبت حقيقة هذا المرض نذكر منها قوله تعالى : ” أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون”.(2)
إن وقائع سلوك الجن في أجسام الإنس كثيرة ومشاهدة لا تكاد تحصى لكثرتها، ومنكر ذلك مصطدم بالواقع والمشاهدة وأنه لا لَيُنَادَى ببطلان قوله. (3)
وأقوال أطباء العصر الحديث أجانب كانوا أم عرب في الإطار لا تنتهي.